أصل السبحة
ما نقل عن بعضهم من أن عدّ الذكر بالأنامل أفضل للحديث الوارد عن ابن عمر رضي الله عنهما صحيح لكنه مقيد بما إذا أمن الذاكر من الغلط في العدد ( كالتسبيح بعد كل صلاة 33 مرة ).
و لكن أكثر الذكر الذي جاءت به السنة الشريفة لا ينحصر بالأنامل غالبا ، و لو أمكن حصره لكان الاشتغال بذلك يذهب الخشوع . و السبحة يؤمن معها ذهاب الخشوع ، فهي معينة على الحضور في الذكر.
يقول في شرح قول صاحب قصيدة المنية:
واتخذ السبحة للإعانة و عمل الإمام ذي الديانة
(السبحة ) معروفة ، و سماها بعضهم المذاكرة ، و بعضهم حبل الوصال ، و بعضهم رابطة القلوب ، و قوله (للإعانة) أي لكونها تعين على ضبط العدد الموظف الذي يقصد الذاكر الانتهاء إليه ، و المراد بالإمام في قوله (وعمل الإمام) هو الإمام الجنيد رضي الله عنه لما نقله السيوطي عن ابن خلكان أنه رأى في يده سبحة فقيل له : "أنت مع شرفك تأخذ السبحة ؟" قال:" طريق وصلت به إلى ربي لا أفارقه."، و قوله (ذي الديانة) وصف للإمام، وصفه به لشدة تدينه و متابعته للسنة، و تحرير طريقه على الشريعة تحرير الجوهر.
يقول : و مما يلتحق باللوازم المتقدمة اتخاذ المريد المتمسك بهذا الورد لضبط عدده سبحة يستعين بها على ذلك ، و تذكره ما هو بصدده ، و ذلك لتواطؤ السلف و الخلف عليها فيما مضى و حضر من الأزمان ، و خصوصا إمام الطريقة أبا القاسم الجنيد لمزية تقديم طريقه على غيرها عند المشايخ الكُمَّل و العلماء الأعلام ، قالوا وهي أقدم الطرق كلها ، لتحريرها على الكتاب و السنة تحرير الذهب ، و من هنا كان كل من سلكها نجا ، وكان رضي الله عنه يقول : "علمنا هذا مشيد بالكتاب و السنة." .
و غرض الناظم فيما أشار إليه في هذا البيت الإخبار بأن اتخاذ السبحة عليه عمل سيدنا أحمد التجاني رضي الله عنه ، و كذا سائر أتباعه و أهل طريقته ، وهو من عمل أئمة السلف ، وفائدته ظاهرة وهي الإعانة على ضبط عدد الورد و على نهوض الهمة للذكر ، لأنها مذكرة لذلك و منبهة عليه.
وقدالحديث.يخ جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى و رضي عنه في أصل اتخاذها جزءا سماه "المنحة في السبحة " تتبع فيه ما ورد من الأحاديث و الآثار ، منها حديث الطبراني عن صفية أم المؤمنين رضي الله عنها :" دخل عليّ النبي صلى الله عليه و سلم و بين يدي أربعة آلاف نوًى أسبح بهن ..."، الحديث. و منها حديث الحاكم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:" أنه دخل مع النبي صلى الله عليه و سلم على امرأة بين يديها نوًى أو حصى تسبح بهن. " الحديث.
و منها ما في معجم الصحابة للبغوي و تاريخ ابن عساكر عن أبي صفية مولى النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يوضع له نطع و يجاء بزنبيل فيه حصًى فيسبح به إلى نصف النهار ، ثم يرفع فإذا صلى الأولى أتى به فيسبح حتى يمسي .
و ذكر عن سعد ابن أبي وقاص أنه كان يسبح بالحصى أو النوى ، و عن فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب :" أنها كانت تسبح بخيط معقود في يدها .".
و عن أبي الدرداء أنه كان له نوًى من العجوة في كيس ، فإذا صلى الغداة أخرجهن واحدة، واحدة يسبح بهن .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه انه كان له كيس فيه حصى أو نوى يسبح به.
وذكر عن مولانا علي كرم الله وجهه أنه قال:"نعم الذكر السبحة".
و ذكر عن زاذان أنه قال :" أخذت من أم يعفور تسابيح ، فلما أتيت عليا قال : "اردد على أم يعفور تسابيحها إلى غير ذلك .".
و قد ذكر الشيخ أبو الفضل العقباني في جواب له مسلسل للقاضي عياض بسنده إلى أبي عمران بن علوان عن الجنيد بسنده إلى الحسن البصري كل واحد يقول : "رأيت فلانا و في يده سبحة ." [...]
و ممن روى هذا أيضا خاتمة العلماء المحققين الشيخ أبو العباس الهلالي رحمه الله تعالى وقال :" و بهذا الأثر يستدل على أن السبحة كانت على عهد الصحابة رضي الله عنهم ، لأن الحسن البصري ، كما عند ابن خلكان، ولد في خلافة سيدنا عمر لسنتين بقيتا منهما ، فتكون بدايته و الصحابة متوافرون ، بما أنه صرح أنه اتخذها في بدايته.".
قال السيوطي بعد نقله لكل ما تقدم :" فلو لم يكن في اتخاذ السبحة إلا موافقة هؤلاء السادات و الدخول في سلكهم لصارت بهذا الاعتبار من أهم الأمور...".
ولا شك أنها آلة مباركة شريفة ، كيف ؟ وهي سبب موصل إلى دوام ذكر الله تعالى.
وقد شوهد فيها و لها بركات عظيمة منها ما في المنحة عن أبي مسلم الخولاني رضي الله عنه أنه كانت له تسبيحة ، فقام ليلة و السبحة في يده قال : فاستدارت السبحة و التفت على ذراعه وهي تقول:" سبحانك يا منبت النبات و يا دائم الثبات . " ذكره الطبري في كتاب الكرامات.
ولهذا تجد الصادقين من أهل الطريق يتحفظون بها عن القاذورات و كل ما فيه امتهان لها ...
و قد رأيت الناظم رحمه الله تعالى يعظمها أشد التعظيم و يصونها عن الأقذار وعن وضعها بمحل يكون مظنة للامتهان.
و قد رأيت كلاما للشيخ أبي الفضل العقباني رحمه الله تعالى صرح فيه :" قد بلغني أن هؤلاء الذاكرين بهذه السبحة يتحفظون بها عن القذر و عن كل ما يظن به أذى تكريما و تشريفا لها ، و إن فعلهم لسداد ، لأن ما أعد لذكر الله تعالى من تكبير و تسبيح و تحميد و تمجيد و صلاة على النبي صلى الله عليه و سلم جدير بأن يصان عن الأخباث و الأدران ، و أن يتبرك به و يستشفى به .".
قال :" و من ثم وضعها الإمام سحنون رضي الله عنه في عنقه ..." إلى آخر كلامه في" النوازل" بعد أن ذكر قبل هذا عن مدارك القاضي عياض أن بعضهم قال :" دخلت على سحنون و في عنقه تسبيح يسبح به." ، قال :" و أنت تعلم من سحنون علما وورعا ، و هل يقدم على هذا إلا بدليل.".
وإن كان يؤخذ من هذا أن جعل السبحة في العنق لا بأس به لما فيه من رفع لهذه الآلة المباركة ، فإنه لا يجري العمل به في طريقتنا و لا ينبغي أن يقر على ذلك من فعله ، لأن ربح المريد في متابعة أستاذه متابعة الظل ، بل ينبغي إخفاؤها و جعلها تحت الثياب تجافيا عن المباهاة و التظاهر بدعوى الفقر و أسباب الشهرة ، و هذه طريقة المحققين من أهل الطريق .
و بالجملة فطريقنا أن لا نجعل السبحة في العنق إلا بقصد رفعها و صونها و تكريما و تشريفا لها ، و عليه يُحمَل عمل أصحابنا في الصحراء و من يتابعهم على ذلك ، و ما عدا ذلك فليس من طريقنا في شيء.
و خلاصة هذه النقول أن اتخاذ السبحة من شعار أهل الدين ، و طريق الأئمة المهتدين ، و عمل السلف الصالح من الصحابة و التابعين رضي الله عنهم أجمعين .
قال في "المنحة":" ولم ينقل عن أحد من السلف و لا من الخلف المنع من عد الذكر بالسبحة، بل كان أكثرهم يعدونه بها و لا يرون ذلك مكروها.".