لعلم الحقيقي
في سؤال عقده وسيلتنا أبو العباس أحمد التجاني رضي الله عنه لمن يدعي التبحر في العلم وهو :
ما رأس العلم، و ما قلبه و ما أجنحته ؟
فمن علم هذا صحت نسبة العلم له ، و من لم يقدر على حل قفله فهو عن العلم بمعزل ، لأن من علم ما فيه رشده و صلاحه و نجاته و سلك غيره فيسجل عليه أنه سفيه في الدين و لا تحل مجالسته فضلا عن الكلام معه في الأحكام الشرعية ، لأنه ممقوت ، نسأل الله السلامة من هذه الحالة . قال تعالى: " كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ." . وقال عز من قائل : " فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم..." ، إلى غير هذا من أنواع القوارع .
ودليل آخر، هو أنّ من زعم أنه ينتصر للشريعة بقوله من غير عمل بما فيها فهو كذاب ، لأنه في الحقيقة نصرته لنفسه ، وهو ممن جاء في حقه قوله تعالى : "أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم ." . الآية .
و من كان هذا وصفه فهو جاهل أيضا ، لأن العلم محصور في الخشية ، قال تعالى " إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ." و من لم يخش الله فعلمه حجة عليه في الآخرة ، لما ورد في الحديث ، " العلم علمان : علم في اللسان ، فذلك حجة الله على ابن آدم و علم في القلب ، فذلك العلم النافع...". الحديث
و قال سفيان رضي الله عنه : " إن عملت بما علمت فأنا أعلم الناس و إن لم أعمل بما أعلم فلا أحد أجهل مني." .
فمن فهم هذا فلا ينبغي له إلاّ الانغماس في هذا البحر ليتطهر من أدرانه ، ويجتني من درره ليفوز في دنياه و آخرته ، ومن فهم هذا و أعرض عن الاتصاف به فلا كلام عليه لأنه غارق في بحر هواه ، عابد لنفسه . و في هذا كفاية . والسلام .
أجاب رضي الله عنه ؛ بعد سؤالنا عن السؤال المتقدم ؛ قال رضي الله عنه و نفعنا به أمين :
" أما رأس العلم عند أهل الحق فهو أن لا يكون في عقله و لا في علمه و لا في وهمه غير الله ، حتى في لحظة من اللحظات .
و هو الذي أراده الشيخ مولانا عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه بقوله :" وأغرقني في بحر عين الوحدة حتى لا أرى و لا أسمع و لا أحس و لا أجد إلا بها ."
وأن يكون متعلقا بالله قلبا و قالبا ، ظاهرا و باطنا ، ينبذ ما سواه و يعدم الالتفات إلى غيره جملة و تفصيلا ، فهذا هو زبدة الأعمال الشرعية و رأسها .
و أما قلب العلم فهو عبادة العبد لذات الله من غير ملاحظة شيء، جاء في بعض الكتب المنزلة:" و من أظلم ممن عبد ني لجنة أو نار، فلو لم أخلق جنة ولا نارا ألم أكن أهلا للعبادة؟"
و لا ينتظر جزاء من نيل ثواب و خوف عقاب ، وإنما يعبده محبة فيه و ابتغاء مرضاته ليكون عبدا لمولاه خالصا من سواه ، مع الرضا بالقضاء و السكون تحت مجاري الأقدار من غير منازعة لمن له التصرف التام في ملكه و الاختيار، فهذا هو الإخلاص الذي هو روح الأعمال و قلب العلم .
و أما أجنحته فهي ترك العبد التدبير و الاختيار لنفسه برفع ضرر أو جلب مصلحة، والرضا بحكم من له التدبير.
قال ابن عباس رضي الله عنه :" ما حجب العباد إلا تدبيرهم لأنفسهم فلو تركوا التدبير لرأوا الله عيانا" .
و أشار مولانا عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه لهذا بقوله :" لا تختر من أمرك شيئا ، واختر أن لا تختار ، و فر من ذلك المختار ، ومن اختيارك و من فرارك و من كل شيء إلى الله تعالى "و ربك يخلق ما يشاء و يختار." .". انتهى كلام سيدنا رضي الله عنه و بعضه بالمعنى .
فمن علم هذا ، و وفق للعمل به فقد ظفر بحقيقة العلم و صحت نسبته إليه، وهو الذي ورد مدحه في الكتاب و السنة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، ومن لم يتصف بهذا فالجهل وسمه، وضرره لنفسه أكثر من نفعه . والسلام و صلى الله على سيدنا محمد و على آله و سلم .
إفادة التجاني بما ليس في جواهر المعاني