التصوف لا يذم في حد ذاته، بل هومطلوب لكل مسلم إذا أريد به الاهتمام بالروح اهتماما لا يطغى ولا يضر بالجسد، وعلينا أن نزن أعمال التصوف بميزان الكتاب والسنة، فما وافقهما قبلناه وما خالفهما تركناه.
وقد جاء الإسلام بالتوازن في الحياة، يعطي كل ناحية حقها، ولكن الصوفية ظهروا في وقت غلب على المسلمين فيه الجانب الماديّ والجانب العقليّ.
الجانب الماديّ، نتج عن الترف الذي أغرق بعض الطبقات، بعد اتساع الفتوحات، وكثرة الأموال، وازدهار الحياة الاقتصادية، مما أورث غُلوًّا في الجانب المادي، مصحوبًا بغلوآخر في الجانب العقلي، أصبح الإيمان عبارة عن "فلسفة" و"علم كلام" "وجدل"، لا يشبع للإنسان نهمًا روحيًا، حتى الفقه أصبح إنما يعنى بظاهر الدين لا بباطنه، وبأعمال الجوارح. لا بأعمال القلوب وبمادة العبادات لا بروحها.
ومن هنا ظهر هؤلاء الصوفية ليسدُّوا ذلك الفراغ، الذي لم يستطع أن يشغله المتكلمون ولا أن يملأه الفقهاء، وصار لدى كثير من الناس جوع روحيّ، فلم يشبع هذا الجوع إلا الصوفية الذين عنوا بتطهير الباطن قبل الظاهر، وبعلاج أمراض النفوس، وإعطاء الأولوية لأعمال القلوب، وشغلوا أنفسهم بالتربية الروحية والأخلاقية، وصرفوا إليها جُلَّ تفكيرهم واهتمامهم ونشاطهم. حتى قال بعضهم: التصوف هوالخُلق، فمن زاد عليك في الخُلق فقد زاد عليك في التصوف. وكان أوائل الصوفية ملتزمين بالكتاب والسنة، وقَّافين عند حدود الشرع، مطارِدين للبدع والانحرافات في الفكر والسلوك.
ولقد دخل على أيدي الصوفية المتبعين كثير من الناس في الإسلام، وتاب على أيديهم أعداد لا تحصى من العصاة، وخلّفوا وراءهم ثروة من المعارف والتجارب الروحية لا ينكرها إلا مكابر، أومتعصب عليهم.
والحقيقة أن كل إنسان يؤخذ من كلامه ويترك، والحكم هوالنص المعصوم من كتاب الله ومن سنة رسوله. فنستطيع أن نأخذ من الصوفية الجوانب المشرقة، كجانب الطاعة لله. وجانب محبة الناس بعضهم بعضًا، ومعرفة عيوب النفس، ومداخل الشيطان، وعلاجها، واهتمامهم بما يرقِّق القلوب، ويذكِّر بالآخرة. نستطيع أن نعرف عن هذا الكثير عن طريق بعض الصوفية كالإمام الغزالي.
■ الإمام الشاطبي (توفي سنة 790 هـ):
ذكرت "المسلم" مجلة العشيرة المحمدية تحت عنوان: الإمام الشاطبي صوفي سلفي للسيد أبي التقى أحمد خليل: كتاب الاعتصام من الكتب التي يعتبرها المتسلفة مرجعا أساسيا لبعض آرائهم، ويرون في الشيخ أبي اسحاق الشاطبي إماما لهم، وقد عقد الإمام الشاطبي في كتابه هذا فصولا كريمة عن التصوف الإسلامي، وأثبت أنه من صميم الدين، وليس هومبتدعا، ووفى المقام هناك بما تخرس له الألسن، وتسلم له العقول والقلوب فاستمع إلى الإمام الشاطبي يقول:
(إن كثيرا من الجهال يعتقدون في الصوفية أنهم متساهلون في الاتباع والتزام ما لم يأت في الشرع التزامه مما يقولون به ويعملون عليه، وحاشاهم من ذلك أن يعتقدوه أويقولوا به. فأول شيء بنوا عليه طريقهم اتباع السنة واجتناب ما خالفها، حتى زعم مذكرهم وحافظ مأخذهم وعمود نحلتهم أبوالقاسم القشيري: إنهم إنما اختصوا باسم التصوف انفرادا به عن أهل البدع. فذكر أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسم أفاضلهم في عصرهم باسم علم سوى الصحبة، إذ لا فضيلة فوقها، ثم سمي من يليهم التابعين، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية في الدين: الزهاد والعباد. قال: ثم ظهرت البدع وادعى كل فريق أن فيهم زهادا وعبادا، فانفرد خواص أهل السنة، المراعون أنفسهم مع الله، والحافظون قلوبهم عن الغفلة باسم التصوف، فتأمل تغنم، والله أعلم) المصدر عدد شهر ذي القعدة 1373 هـ من "المسلم" مجلة العشيرة المحمدية.
■ الشيخ محمد متولي الشعراوي:
يقول فيما يرويه لنا كتاب (أصول الوصول) للشيخ زكي إبراهيم: الصوفي يتقرب إلى الله بفروض الله، ثم يزيدها بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، من جنس ما فرض الله، وأن يكون عنده صفاء في استقبال أقضية العبادة فيكون صافيا لله، والصفاء هو كونك تصافي الله فيصافيك الله. والتصوف رياضة روحية لأنها تلزم الإنسان بمنهج تعبدي لله ما فرضه. وهذه خطوة نحو الود مع الله. وهكذا يمن الله تعالى هؤلاء المتصوفين ببعض العطاءات التي تثبت لهم أنهم على الطريق الصحيح، تلك العطاءات هي طرق ناموس ما في الكون، ويكون ذلك على حسب قدر صفاء المؤمن، فقد يعطي الله صفحة من صفحات الكون لأي إنسان، فينبئه به أو يبشره به ليجذبه إلى جهته. وعندما يدخل الصوفي في مقامات متعددة وجئنا بمن لم يتريض ولم يدخل في مقامات الود وحدثناه بها، فلا شك أنه يكذبها ولكن تكذيبها دليل حلاوتها. والمتصوف الحقيقي يعطيه الله أشياء لا تصدقها عقول الآخرين، ولذلك فعليه أن يفرح بذلك ولا يغضب من تكذيب الآخرين له.
■ الاستاذ عبد الباري الندوي:
يقول في كتابه (بين التصوف والحياة)، في عدة صفحات متفرقة من كتابه: يجب أن يعرف المسلمون أنه لا حظ لهم من الدنيا إذا لم يتمكن في أعماق نفوسهم الإيمان الخالص. ومن الظلم والجور العظيمين أن تنفق في تحصيل العلم الظاهر سنوات عديدة ولا تبذل لإصلاح الباطن عدة شهور، إن التصوف أو العلم الباطني بالغ فيه الناس مبالغة عظيمة، وصوروه تصويرا شائها، وشرحوه شرحا طبعه بطابع الضلالة إلا أنه قانون لأعمال القلب والباطن.. ونجد تفاصيل أحكام التصوف منصوصة في الكتاب والسنة مثل ما نجد أحكام الفقه تماما وتتبين أهمية أحكام التصوف وأفضليته من نصوص القرآن والحديث التي تصرح بها أو تلمح إليها.
فإن أبى شخص أن يعترف بالتصوف كعلم بعينه وفن بذاته فلم لا ينفر ويشمئز من المصطلحات الدينية الأخرى، من تفسير ومفسر، وتجويد ومجود، وكلام ومتكلم، وغيرها، أما أولئك الذين رأوا التصوف والطريقة والحقيقة والمعرفة ضدا للبشرية فهؤلاء الذين وقعوا في ضلالة أشد خطأ وأطم.
■ الفقيه ابن عابدين (توفي سنة 1252 هـ):
وتحدث خاتمة المحققين العلامة الكبير والفقيه الشهير الشيخ محمد أمين المشهور بابن عابدين رحمه الله تعالى في كتابه المسمى "مجموعة رسائل ابن عابدين" الرسالة السابعة "شفاء العليل وبل الغليل في حكم الوصية بالختمات والتهاليل" عن البدع الدخيلة على الدين مما يجري في المآتم والختمات من قبل أشخاص تزيوا بزي العلم وانتحلوا اسم الصوفية، ثم استدرك الكلام عن الصوفية الصادقين حتى لا يظن أنه يتكلم عنهم عامة فقال:
(ولا كلام لنا مع الصدق من ساداتنا الصوفية المبرئين عن كل خصلة ردية، فقد سئل إمام الطائفتين سيدنا الجنيد: إن إقواما يتواجدون ويتمايلون؟ فقال: دعوهم مع الله تعالى يفرحون، فانهم قوم قطعت الطريق أكبادهم، ومزق النصب فؤادهم، وضاقوا ذرعا، فلا حرج عليهم إذا تنفسوا مداواة لحالهم، ولوذقت مذاقهم عذرتهم في صياحهم).
■ ابن عجيبة :
(التصوف لب الإسلام، وهوعلم يعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرذائل، وتحليتها بأنواع الفضائل، وأوله علم وأوسطه عمل وآخره موهبة. وأصله " أي التصوف" أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة التابعين، ومن بعدهم طريقة الحق والهداية وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد في ما يقبل عليه الجمهور من لذة مال وجاه والانفراد عن الخلق، والخلوة للعبادة، وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة، فمن هذه النصوص، يتبين لنا أن التصوف ليس أمرا مستحدثا جديدا، ولكنه مأخوذ من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحياة أصحابه الكرام، فالصحابة والتابعون وإن لم يتسموا باسم المتصوفين، كانوا صوفيين فعلا، وإن لم يكونوا كذلك اسما).