سئل سيدنا رضي الله عنه عن قوله:
[الله يجتبي إليه من يشاء و يهدي إليه من ينيب] .الشورى.
فأجاب رضي الله عنه :
معنى الاجتباء هو جذب الله تعالى للعبد إلى حضرة قدسه بحكم الفضل و الجود والعناية بلا تقدم سبب من العبد .
و المجتبى يسمى محبوبا و مصطفى و مرادا و معتنى به ، فهذه الأسماء للمجتبى و هذا الاجتباء سبق به الحكم الإلهي في الأزل بلا علة و لا سبب ، و لذا قيل كم من صديق في الغبا و كم من عدو في العبا ، و الغبا هو الجهل و الضلال و الكفر و المخالفة ، فهذه الأمور كلها لا تضر لأن العناية كافلة و شاملة له.
و في هذا يقول صلى الله عليه و سلم في هند بنت عتبة وكانت في أعظم العداوة لله و رسوله وأكلت كبد حمزة رضي الله عنه غيظا و حقدا قال : " لا يجتمع كبد حمزة و النار في جوفها أبدا " ، أخبر صلى الله عليه و سلم أنها سعيدة بأرباح العناية الأزلية ، و لم يضرها ما فعلت ، والعبا هي العبادة و التقرب إلى الله تعالى فكم فيها لله من عدو يعني في الغيب أنه يموت كافرا ، و كذلك ما وقع لعمير ابن وهب حين كان قاصدا قتل النبي صلى الله عليه و سلم و كان من صناديد قريش و من شياطينهم ،فلما رآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الباب و السيف في عنقه اغتاظ ودخل على النبي صلى الله عليه و سلم وقال له : "هذا عمير ابن وهب دعني أقتله فما جاء لخير و هو الذي حرز للقوم يوم بدر" قال صلى الله عليه و سلم:" دعه " ثم أدخله عليه قال له صلى الله عليه و سلم :" ما جاء بك ؟" قال له :" جئتكم لتحسنوا إليّ في هذا الأسير." و كان ابنه أسيرا فقال صلى الله عليه و سلم:" بل جلست أنت وصفوان ابن أمية في الحجر و ليس معكما غيركما و ذكر له جميع ما تحدثا به إلى أن قال له :" وجئت لتقتلني " فقال له عمير :" لو كان معنا ثالث لقلت أخبرك بذلك و أنا الآن أيقنت أن خبرك حق فأشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أنك رسول الله و حسن إسلامه ، ثم رجع إلى مكة و صار يدعو الناس إلى الإسلام حتى أسلم معه خلق كثير رضي الله عنه ، ثم دام على إسلامه رضي الله عنه.
فانظر هذا الاجتباء الذي اجتباه ربه فما أثر فيه عظم ذنبه و لا ما اقترفه من حوبه بل تمكن من صفاء صفوة النور الإلهي ، و ألبس حلة القرب و صار عبدا خالصا لله .
و قوله تعالى: " من يشاء... " : أي بلا سبب و لا علة بل بمحض الفضل و الجود.
قوله تعالى: " و يهدي إليه من ينيب " أي من أناب إلى الله بصدق تقواه ، في معاملته لله تعالى بالصفاء ، هداه إليه حتى يوصله إلى حضرة قدسه.
و لم يذكر الله في حق الأنبياء عليهم الصلاة و السلام إلا الاجتباء ، قال سبحانه و تعالى في حق آدم عليه السلام : [ ثم اجتباه ربه فتاب عليه و هدى] و في حق يونس عليه السلام [فاجتباه ربه و جعله من الصالحين] وفي حق الأنبياء حين ذكرهم في سورة الأنعام [واجتبيناهم و هديناهم إلى صراط مستقيم] ، فسلكوا الطريق إليه بذلك الاجتباء عليهم الصلاة و السلام .
وما ما ذكر في الآية من الاجتباء و الإنابة في الطائفة الأولى هم أهل الإنابة و صاحبها يسمى مريدا و محبا و مخلصا ، وسائرا إلى الله تعالى ، قال سبحانه و تعالى في جزائهم أنه يهديهم إليه جزاء لتقدم تقواهم ، و الطائفة الثانية أخبر أنه اجتباهم بمحض المشيئة بلا تقدم سبب وصاحبها يسمى مصطفى ومجتبى و مخلصا بفتح اللام و مقربا و محبوبا و مرادا و معتنى به.
و في هذا يقول بعض الصوفية في سيدنا موسى عليه السلام وعلى نبينا صلى الله عليه و سلم: أن سيدنا موسى لما أراد الارتحال إلى الله و العروج إليه ، أمره بصيام ثلاثين يوما متصلة ليلا و نهارا فلما كملت ثلاثون ،أنكر خلوف فمه فتسوك بعود خرنوب طلبا لزوال ما أنكره من فمه فعاتبه الله على ذلك السواك و أمره بزيادة عشر لتكمل أربعين ليلة ، أما سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم ليلة المعراج لم يأمره بعمل شيء إلا الملك نزل عليه و قال له:" قم ".فعرج به فكان سيدنا موسى عليه السلام مقامه مقام المريد المحب ، فأمِر بتقدم السبب منه ، و سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم مقامه مقام المُراد المخلَص المجتبى ، فما أمره بتقدم شيء فاجتباه بلا سبب ، و قربه إليه بلا علة ، بل بمحض الفضل و الجود و الكرم .
لطيفة : قال سيدنا رضي الله عنه :" ما خلق الله لنفسه إلا سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم ، والباقي من الوجود كله مخلوق لأجله صلى الله عليه و سلم و معلل بوجوده صلى الله عليه و سلم ، لولا أنه خلق سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم ما خلق شيئا من العوالم ، فبان لك أن الوجود كله مخلوق لأجله صلى الله عليه و سلم . "
جواهر المعاني