اعلم رحمك الله أن الذكر أشرف العبادات لأن سائر العبادات تنقضي بانقضاء الدنيا إلا ذكر الله تعالى.
جاء في لوامع الأنوار لشهاب الدين العسقلاني رضي الله عنه :" أنهم يعني أهل الجنة مداومون على الذكر فيها ، لأن سائر العبادات تنقضي بانقضاء الدنيا إلا ذكر الله تعالى فإنه لا ينقضي بل هو مستمر للمؤمنين في الدنيا و الآخرة... " و قد روي أن أهل الجنة يلهمون الحمد و التسبيح كما يلهمون النفس، يقولون سبحان الله و الحمد لله متلذذين لا متعبدين كما يتلذذ من به العطش بالماء البارد.
و قال الإمام فخر الدين الرازي في أسرار التنزيل :" اعلم أن جميع الطاعات تزول يوم القيامة ، أما طاعة التهليل و التحميد فلا تزول عن المؤمن ، و كيف يمكن زوالها عنه و القرآن يدل على أنهم مواظبون على الحمد ، و المواظبة على الحمد توجب المواظبة على الذكر و التوحيد لقوله تعالى حكاية عن المؤمنين في الجنة { الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن}فاطر. و قالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وقال{دعواهم فيها سبحانك اللّهمّ و تحيّتهم فيها سلام}يونس. لا إله إلا هو له الحمد في الأولى و الآخرة، فثبت أنهم مواظبون على الحمد، و المواظبة على الحمد مواظبة على الذكر، و من هذا فإن جميع العبادات زائلة عن أهل الجنة إلا طاعة الذكر.
و إذا تقرر هذا ، فاعلم أن الذكر سبب السعادة في الدنيا و الآخرة ، و مطردة للشيطان و يرضي الرب و يجلب الرزق و ييسره ، و يكسوا الذاكر مهابة و يورث محبة الله تعالى و مراقبته ، و يورث الإنابة و القرب من الرب و يفتح باب المغفرة و يورث العبد إجلالا لربه ، و يورث ذكر الله تعالى للعبد ، و به تحيا القلوب كما يحيا الزرع بالمطر ، وهو قوت الأرواح و جلاء القلب من الصدأ، و يورث النور في الفكر و يحط الذنوب و يزيل الوحشة بين العبد و ربه ،...وهو للعبد سبب لنزول السكينة عليه و حفوف الملائكة به و نزولها لديه و غشيان الرحمة ، وهو للإنسان شاغل عن الغيبة و الكذب و كل باطل ، و الذاكر لا يشقى به جليسه و مجلسه لا يكون عليه حسرة يوم القيامة ، والذكر مع البكاء سبب لنيل ظل العرش الظليل ، و من شغله ذكر الله عن المسألة أعطي أفضل ما يعطى السائلون ، وهو غراس الجنان و سبب العتق من للنيران و الأمان من النسيان ، وهو نور للعبد في دنياه و قبره و نشره وهو منشور الولاية ، وهو يرقي العبد إذا رسخ في القلب و يجمع على الذاكر قلبه ، و يقرب من قلبه الآخرة و يبعد عنه الدنيا ، و يثمر المعرفة و الولاية و التوفيق و الحماية ، و يعدل عتق الرقاب و الجهاد و القتل في سبيل الله و إنفاق الورق و الذهب ، وهو رأس الشكر و يدخل الجنة و يذهب من القلب القساوة ، و الذكر شفاء للقلوب ، وهو أصل موالاة الله تعالى كما أن الغفلة أصل معاداته ، وهو رافع للنقم و جالب للنعم و موجب لصلاة الله و ملائكته عليك ، و مجالس الذكر رياض الجنة و يباهي الله ملائكته بالذاكرين في السماء ، وهو ينوب عن سائر الأعمال و يقوي الجوارح و يفتح مغلق الأبواب ، وهو أمن و نجاة و سيف ، و الذكر سد بين العبد و بين النار ، و نار لا تبقي ما نبت من فضول الحرام و يثبت الأنوار في القلوب ، و الملائكة يستغفرون للعبد إذا لازم الذكر و الجبال تتباهى به إذا مر بها ، وهو شيمة المؤمن و له لذة أجل من لذة المطعومات و المشروبات ، ووجه الذاكر يكسى في الدنيا نورا و في الآخرة يكون أشد بياضا من القمر ، وهو يرفع إلى أعلى الدرجات ، و الذاكر حي و إن مات و الغافل ميت و إن كان حيا ، و يورث الري من العطش حين الموت .
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسَبِّحُوه بكرةً وأصيلاً} الأحزاب
وقال {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون}البقرة
وقال تعالى {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} الرعد
و قال { اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } الجمعة
وقال أيضاً: {والذاكرين الله كثيراً والذاكراتِ أعدّ اللهُ لهُم مغفرة وأجراً عظيماً}الأحزاب
إلى غير ذلك من الآيات .
روى البخاري و مسلم عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : " ألا أُنبئكم بخير أعمالكم، وأزْكاها عند مليكِكم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والوَرِق [الورق: الفضة]، وخيرٍ لكم من أن تلْقَوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى. قال: ذكرُ الله تعالى "
و روى ابن حبان و الإمام أحمد على و الحاكم و قال صحيح الإسناد مرفوعا :" أكثروا من ذكر الله حتى يقولوا مجنون "
و روى ابن ماجة و ابن حبان في صحيحه مرفوعا : أن الله عز و جل قال : " أنا مع عبدي إذا هو ذكرني و تحركت بي شفتاه "
وروى الترمذي و ابن حبان و ابن ماجة و قال صحيح الإسناد أن رجلا قال :" يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتثبت به قال :" لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله " و روى ابن أبي الدنيا و الطبراني و البزار عن معاذ بن جبل قال : " آخر كلام فارقت عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم أن قلت : أي الأعمال أحب إلى الله قال :" أن تموت و لسانك رطب من ذكر الله ".
و روى البخاري و مسلم مرفوعا:" مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربَّهُ مثل الحي والميت" و لفظ مسلم الذي يذكر الله تعالى.
و روى الطبراني و البيهقي مرسلا :" اذكروا الله تعالى ذكرا حتى يقول المنافقون أنكم مراؤون".
و روى ابن أبي الدنيا مرفوعا :" ما من يوم وليلة إلا لله عز و جل فيه صدقة يمنّ بها على من يشاء من عباده و ما منّ الله تعالى على عبده بأفضل من أن يلهمه ذكره".
و روى الإمام أحمد و الطبراني أن رجلا قال : يا رسول الله أي المجاهدين أفضل و أعظم أجرا ؟ قال :" أكثرهم لله تعالى و تبارك ذكرا "ثم ذكر الصلاة و الزكاة و الحج و الصدقة كل ذلك و رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :" أكثرهم لله تعالى و تبارك ذكرا" فقال أبو بكر لعمر : يا أبا حفص ذهب الذاكرون بكل خير، قال صلى الله عليه و سلم "أجل"
و روى الطبراني و البيهقي بإسناد جيد مرفوعا :" ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت عليهم و لم يذكروا الله تعالى فيها "
و روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل أي العباد أفضل و أرفع درجة عند الله تعالى يوم القيامة ؟ قال:" الذاكرين لله كثيرا" قيل و من الغازي في سبيل الله ؟ قال:" لو ضرب بسيفه حتى ينكسر و يتخضب دما فإن ذاكر الله أفضل منه درجة".
وفي لواقح الأنوار القدسية : سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول : "ماثم كرامة للعبد أفضل من ذكر الله تعالى لأنه يصير جليسا للحق كلما ذكره ، و قد اختلى مريد سنة كاملة فما رأى نفسه وقعت لها كرامة فذكر ذلك لشيخه فقال : أتريد كرامة أعظم من مجالسة الله تعالى .. ما رأيت أكثر حجابا منك ، لك في الكرامة العظمى سنة كاملة و لا تشعر بها."
قال القشيري :" الذكر ركن قوي في طريق الحق بل هو العمدة في ذلك ، ولا يصل أحد إلى الله تعالى إلا بدوام الذكر ، و ذكر اللسان يصل به العبد إلى ذكر القلب ، فإذا كان العبد ذاكرا بلسانه و قلبه فهو الكامل في حال سلوكه ."
و قال أبو علي الدقاق رحمه الله تعالى : "الذكر منشور الولاية ، فمن وُفِّق للذكر فقد أعطي المنشور و من سلب الذكر عزل، و ذكر الله تعالى بالقلب سيف المريدين يقاتلون به أعداءهم ، و به يدفعون الآفات التي تقصدهم ."
و قال ذو النون المصري:" من ذكر الله تعالى ذكرا على الحقيقة نسي في جنبه كل شيء و حفظ الله تعالى عليه كل شيء و كان له عوضا عن كل شيء."
وقال الشبلي رحمه الله تعالى:" أليس الله تعالى يقول أنا جليس من ذكرني ،.. ما من وقت من الأوقات إلا و العبد مأمور ، بذكر الله تعالى فيه إما فرضا أو نفلا ، و الصلاة و إن كانت أشرف العبادات فلا تجوز في بعض الأوقات والذكر بالقلب مستدام في عموم الحالات ، قال الله تعالى :{ الذين يذكرون الله قياما و قعودا و على جنوبهم }آل عمران، و من خصائص الذكر أنه جُعِل في مقابلة الذكر، قال تعالى { فاذكروني أذكركم }البقرة
و روى السهروردي بسنده : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال حاكيا عن ربه : " إذا كان الغالب على عبدي الإشتغال بي جعلت همه و لذته في ذكري ، فإذا جعلت همه و لذته في ذكري عشقني و عشقته و رفعت فيما بيني و بينه لا يسهو إذا سهى الناس أولائك كلامهم كلام الأنبياء أولائك الأبطال الأبدال حقا أولائك الذين إذا أردت بأهل الأرض عقوبة أو عذابا ذكرتهم فصرفته به عنهم "
قال القشيري جاء في الإنجيل :" اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب وارض بنصرتي لك فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك."
و قيل : إذا تمكن الذكر من القلب فإن دنا منه الشيطان صرع كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان فتجتمع عليه الشياطين فتقول :" ما لهذا؟" فيقال:" صرعه الإنسان"، و رأى الجنيد إبليس في المنام فقال له هل تقدر أن تمر على مجالس الذكر فقال : كما أن أحدا منا يمر على أحد منكم و يمسه و يصير مجنونا و مصروعا ، فمنا من يمر على مجلس الذكر فيصير مصروعا و نسميه بيننا مأنوسا كما تسمون المصروع بينكم مجنونا."
و قال سيدي إبراهيم المتبولي :" الذكر أسرع في الفتح من سائر العبادات."
فإذا أكثر العبد ذكر ربه باللسان حصل له الحضور ، و إذا حصل له أكثر الذكر مع الحضور صار الحق مشهوده ، وهناك يستغني عن ذكر اللسان فلا يذكر باللسان إلا في محل يُقتدى به فيه لا غير ، لأن حضرة الحق سبحانه حضرة بهت و خرس يستغني صاحبها في الجمعية بالمدلول ، و إلى هذا الذكر أشار في ياقوتة الحقائق."
قال شيخنا رضي الله عنه و هذا الذكر ليس هو ذكر اللسان المعهود في حق العامة ، و إنما هو الذكر الحقيقي الذي هو الغاية القصوى من الذكر ، وهو إذا أخذ العبد فيه أُخِذ عن جميع دائرة حسه ووهمه، فليس في شعوره ووهمه إلا الله تعالى في حالة الذكر ، وهو بداية الذكر للمقربين ، و نهايته أن يستهلك العبد في عين الجمع و يغرق في بحر التوحيد... و هذه نهاية مراتب الذكر ، ولذا جعله الله تبارك و تعالى في كتابه العزيز هو آخر المراتب قال سبحانه و تعالى : { إن المسلمين و المسلمات و المؤمنين و المؤمنات} إلى قوله { و الذاكرين الله كثيرا و الذاكرات } فتلك الآية رتب فيها سبحانه و تعالى مراتب أهل الإيمان ، فالتي بعد الأخرى هي أعلى منها ، و ذَكَرَ الذاكر في آخرها لأنها ليس مرتبة بعدها.
" الرماح" لسيدي عمر الفوتي