اعلم أن تلك الخصلة مستخرجة من القرآن العظيم قال الله تعالى { و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم } الأنعام. فأثبت الله تعالى المماثلة بيننا و بين سائر البهائم، و معلوم أنها لم تماثلنا في الخلق و الشكل و العقل بل في الأخلاق فلا أحد من الخلق إلا فيه خلق من أخلاق البهائم.
فإذا رأيت أحدا خارجا عن الخلق المعتدل في الناس فانظر ما يماثله في خلقه من البهائم و ألحقه به و عامله معاملته تسترح منه و يسترح منك ، فإذا رأيت الرجل الجاهل في أخلاقه الغليظ في طباعه القوي في بدنه الذي لا يؤمن طغيانه فألحقه بعالم النمور فالعرب تقول أجهل من نمر , و أنت إذا رأيت النمر بعدت منه لا تخاصمه فاجعل الرجل كذلك , و إذا رأيت من خلقه سرقة خفيفة فألحقه بعالم القرد الذي يفسد رحلك فدع مخاصمته و صن رحلك ، و إذا رأيت رجلا هجاما على أعراض الناس فألحقه بعالم الكلاب إذ دأبها أن تجفو من لا يجفوها و تبدأ بإذاية من لا يؤذيها فلا تخاصمه إذا هجم على عرضك واجعله ككلب ينبح ألست تذهب في شأنك و لا تسبه ؟
و إذا رأيت إنسانا قد جبل على الخلاف بغير حق إن قلت نعم قال لا و إن قلت لا قال نعم فألحقه بعالم الحمير فإن دأب الحمار إذا أدنيته بعد و إذا أبعدته قرب فأنت تصحب الحمار و لا تسبه و لا تفارقه !
و إذا رأيت رجلا يطلب عورات الناس فألحقه بعالم الذباب فإنه يقع على الجسد و لا يطلب إلا موضع الدم و النجاسة فاطرحه و لا تلتفت إليه كما يفعل الذباب ، و إذا ابتليت بسلطان يهجم على الأموال و الأرواح فألحقه بعالم الأسود فخذ حذرك واهرب منه كما قال النابغة ( و لا قرار على زأر من الأسد )
و إذا ابتليت بإنسان كثير المراوغة فألحقه بعالم الثعلب و إذا ابتليت بالنمام المفرق بين الأحبة فألحقه فألحقه بعالم الظربان وهي دويبة لا يطاق فسوها و تقول العرب عند التفريق فسا الظربان بينهم فتفرقوا و كما أن الجماعة إذا أقبلت نحوهم هذه الدابة طردوها و منعوها الدخول بينهم كذلك النمام يخرج من بين الجماعة أو يقومون عنه .
و إذا رأيت رجلا لا يسمع العلم و الحكمة و يعرض عن مجالسة العلماء و الحكماء و يألف سماع أخبار الدنيا و سائر الخرافات و ما يجري في مجالس العوام فألحقه بعالم الخنافس و الجعلان فإنه يعجبه أكل القاذورات و يألف روائح النجاسات فلا تراه إلا ملابسا للأخبية و المرحاضات و ينفر من روائح المسك و الورد بل إذا طرح عليه المسك و الورد مات !
و إذا رأيت من دأبه خطب الدنيا لا يستحي من الوثوب عليها فألحقه بعالم الحدأة فإنك تصون رحلك منه فإنه لا يحفظ ذمة
و إذا رأيت إنسانا عليه الدماثة و السكينة و قد نصب شراكة لاقتناص الدنيا و أكل الأموال و الأمانات و الودائع و أمال الأرامل و الأيتام فألحقه بعالم الذئاب كما قال القائل
ذئب تراه مصليا فإذا مررت به ركع
يدعو و جل دعائه ما للفريسة لا تقع
عجل بها يا ذا العلا إن الفؤاد قد انصدع
فاحترز منه كما تحترز من الذئاب
و إذا ابتليت بصحبة إنسان كذاب فاجعل حكمه كالميت لا خبر له فلا تجعل للكذاب خبرا و ألحقه بعالم النعام يدفن جميع بيضه تحت الرمل ثم يترك على وجه الأرض واحدة و أخرى تحت طاقة من الرمل فسائر بيضه في قعر الحفرة فإذا انغمر اخذ تلك البيضة أو يكشف وجه الرمل فيجد الأخرى فيظن أن ليس هناك شيء و الخبير لا يزال يحفر حتى يصل إلى حاجته و لا يغتر بتلك البيضة ، كذلك الكذاب إذا سمعت منه خبرا لا تصدقه و اعرض عنه و فتشه حتى تبلغ الغاية في كشفه
و إذا رأيت رجلا دأبه التزين كالعروس يبيض ثيابه و يعدل عمامته و يتقي أن يمسه شيء ينظر في عطفيه ليس له همة إلا الزينة فألحقه بعالم الطاووس فأعرض عنه
و إذا رأيت رجلا حقودا لا ينسى الهفوات فألحقه بالجِمال و اجتنبه تقول العرب ( احقد من جمل )
و إذا رأيت رجلا منافقا يبطن خلاف ما يظهر فألحقه بعالم اليربوع وهو فأر يكون في البرية يتخذ حجرا تحت الأرض يقال لها النافقاء له فوهتان يدخل من إحداهما و يخرج من الأخرى و منه اشتق المنافق فأعرض عنه
و بالجملة فأحوال الناس كثيرة فاصحب كلا على مقتضى حاله تسترح منه و يسترح منك
مأخوذ من كتاب " الرماح" لسيدي الحاج عمر الفوتي (رضي الله عنه)