سيئل شيخنا أحمد التجاني رضي الله عنه عن معنى قوله سبحانه و تعالى : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى } و عن أقسام الوحي و كيفياته
فأجاب رضي الله عنه :
اعلم أن الله سبحانه و تعالى برأ نبيه صلى الله عليه و سلم من جميع تعلقات الهوى و أسبابه ، و معنى الهوى المذموم هو ما ترتكبه النفس لشهواتها و تكميل أغراضها لا زائد ، و قد برأ الله رسوله صلى الله عليه و سلم من هذا ، بل نفسه خلصت إلى مراتب القرب و تمكنت من صفاء مشاهدة الحضرة الإلهية بحيث أن لا تغيب عنها لحظة ، ولا يشغلها شاغل حتى طرفة عين.
و لكي تتوضح أقسام الوحي لابد من تبيين مرتبة الإلوهية التي هي عكوف الوجود على عبادته سبحانه و تعالى بالخضوع تحت كبريائه و عظمته و جلاله و التذلل لكمال عزه و الخمول تحت قهره بتسليم القياد إليه يفعل ما يشاء و يفعل ما يريد لا منازع له في حكمه ، وهو تعريف له ظاهر و باطن.
فتعريف بظاهر الإلوهية لأصحاب الحجاب من جميع الأكوان ، فكلها تقر له بالإلوهية و تعترف بأنهم عبيد مقهورون تحت حكمه ، و هذا الأمر جبلة فيهم من أصل خلقتهم ، و تواتر بذلك أولهم و آخرهم ، فإن الرسل التي أرسلت إلى الخلق ، ما بعثوا إليهم إلا بتوحيد العبادة للإله و خلع ما يعبدون من دونه ؛ فكذبتهم الأمم في صحة الرسالة من عند الله تعالى ، و ما جحدوا وجود الله تعالى و لا جحدوا إلوهيته قال سبحانه و تعالى مخبرا عنهم : { و الذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى }.الزمر. و قوله تعالى: { قل لمن الأرض و من فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله }.المؤمنون. و قوله تعالى { قل من رب السماوات السبع و رب العرش العظيم سيقولون الله} .المؤمنون. إلى غير ذلك...
أما التعريف بباطن الإلوهية فهو للصديقين و العارفين خرقوا حجاب الظواهر و بلغوا من باطن الإلوهية إلى رتبة حق اليقين ، فما الكون كله عندهم إلا صفات الله و أسماؤه حقيقة لا اعتقادا فتجلى لهم سبحانه و تعالى بباطن أسمائه و صفاته ، و أفاض عليهم أسرارها فاختطفوا عن دائرة البشرية و صارت جميع حركاتهم و سكناتهم و تقلباتهم و أحوالهم و أفعالهم و أقوالهم بالله محضا ، فصاروا بالله في جميع أمورهم لله في الله عن الله موتى عن جميع سواه ، و هذه غاية الصديقين في التعريف ليس لهم مطمع إلى ما وراء هذه الرتبة.
أما التعريف للأقطاب و النبيين و يسمى باطن باطن الإلوهية فهو من السر المصون و الغيب المكنون الذي تنقطع الأعناق دون ذكره ، و أسرار هذا الباطن و منافعه لو تبدى منها لأكابر الصديقين مقدار ذرة لذابوا من هيبة الجلال و صاروا محض العدم في أسرع من طرفة عين ، و هذا الباطن الثاني للأقطاب و النبيين لا مطمع لغيرهم فيه و لو بلغوا ما بلغوا ، إلا أن الأقطاب في أسفل هذه الحضرة و النبيون في أعلاها
ثم الباطن الأخير و الأعلى وهي حضرته الخاصة به صلى الله عليه و سلم لا مطمع للأقطاب و النبيين أن يشموا منها رائحة و لو تبدى منها مقدار هبئة على أكابر الرسل لذابوا من هيبة الجلال و صاروا محض العدم في أسرع من لمح البصر
أقسام الوحي:
الوحي من الله تعالى لأصحاب هذه المراتب كل على قدر مرتبته .
فأما أصحاب المرتبة الأولى وهم جميع الخلق المحجوبون ، فوحي الله إليهم ما يعطيهم في حال المنام ، يكشف لهم ما شاء في وقت ما ، لا في جميع الأوقات ، وهم أصحاب ظاهر الإلوهية.
ثم أصحاب باطن الإلوهية و هم الصديقون , وإن كشف لهم سبحانه أحوال الغيب جهارا و أسمعهم لذة مساورته لهم ، و تبدت لهم حقائق تلك الأسرار تقصر رتبتهم عن مرتبة الأقطاب ، كما أن الأقطاب و إن بلغوا ما بلغوا تقصر رتبهم عن مراتب النبيين عليهم الصلاة و السلام ، كما إن رتبة الرسل الأكابر و إن بلغت في الوحي ما بلغت تقصر عن رتبته صلى الله عليه و سلم .
فوحي الله إليه صلى الله عليه و سلم لا يساويه فيه مخلوق و لا يشم أحد رائحة وحيه صلى الله عليه و سلم في تلك المرتبة .
ثم إن الوحي تارة يكون بمجيء الملك يخبره بقول الله تعالى ، و هذا هو القرآن ،وتارة يكون الوحي بسماع السر المصون وهو الرتبة العليا من الوحي و لا مرتبة فوقها ، و تارة يكون الوحي باللقاء ، وهي مرتبة يتلقى فيها الأمر الإلهي من الله عز وجل بلا واسطة ، و تارة يكون بالإلقاء وهو المسمى بالنفث كما يشير إليه قوله صلى الله عليه و سلم : " ألا و إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله و أجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء شيء أن تطلبوه بمعصية الله فإن الله لا يُنال ما عنده إلا بطاعته" الحديث ، و تارة يكون الوحي بالنيابة بحكم المرتبة و ذوقها عزيز الوجود و من ذلك الأحاديث القدسية كقوله صلى الله عليه و سلم مخبرا عن ربه :" أنا عند ظن عبدي بي و أنا معه إذا ذكرني " الحديث و الأحاديث القدسية كثيرة ،وهذه مرتبتها .
ثم أن من أقسام الوحي ما يكون من فيض المقام الذي تقتضيه المشاهدة ، و منه ما يكون بالإلقاء الذي هو الإلهام، و لا يعلم صاحبه من أين دخل عليه و إلى هذا يشير قوله تعالى { و علمناه من لدنا علما }. .الكهف. { و علمك ما لم تكن تعلم }. النساء. { علم الإنسان ما لم يعلم } . العلق . فكل هذه حقائق لإلقاء بطريق الإلهام ،ومنه قوله سبحانه و تعالى:{وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه...}، ومن هذا الإلهام قوله سبحانه و تعالى: { و أوحى ربك إلى النحل } .النحل.
ومن الوحي أيضا ما يكون في مراتب الأسماء و الصفات و ما تستحقه من الخواص ، فيأخذ منها فيضا إلهيا ووحيا ربانيا يعلم به حكم الغيب و صريح الأمر الإلهي ، ومن الوحي ما يكون بطريق الورود يرد عليه الوارد في حضرته من عند الله تعالى فيلقي إليه ما يلقي من التعريفات و الأسرار والعلوم و الكشوفات و تحقيق الأمر ، و من الوحي ما يكون تلقيه بالنظر في قواعد الحكمة السارية في الوجود ، بالنظر فيما تستحقه الصفات و الأسماء من الخواص ، فهذه هي مراتب الوحي .