مما لسيدنا رضي الله عنه من الكرامات المأثورة و المناقب المشهورة ، رؤيته و اجتماعه بسيد الأنام عليه الصلاة و السلام في حال اليقظة و المشافهة لا في حال المنام ، وهي لدى الرجال الكاملين أجل مقصد و أسنى مرام...
قال الشيخ جلال الدين السيوطي رضي الله عنه في مؤلفه" الإعلام بحكم عيسى عليه السلام" : "إذا نزل يجتمع بالنبي صلى الله عليه و سلم فلا مانع من أن يأخذ عنه ما احتاج إليه من شريعته." ...
ثم إن جماعة من أئمة الشريعة نصوا على أن من كرامات الولي أنه يرى النبي صلى الله عليه و سلم و يجتمع به في اليقظة و يأخذ عنه ما قسم له من معارف و مواهب ، و ممن نص على ذلك من الشافعية و من أئمة المالكية القرطبي و ابن أبي جمرة و ابن الحاج في المدخل.
وفي كتابه " تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي و الملك " : القول بإمكان رؤيته صلى الله عليه و سلم يقظة كذلك عن الشيخ أبي بكر بن العربي المالكي رحمه الله في كتابه" قانون التأويل".و ذكر في "الجيش الكبير" أن اللقاني رحمه الله تعالى حكى اتفاق الحفاظ على جواز رؤيته صلى الله عليه و سلم في اليقظة و المنام ، و أنهم لم يختلفوا في ذلك ، و إنما اختلفوا هل يرى الرائي ذاته الشريفة حقيقة أو مثالا يحاكيها ، فذهب إلى الأول جماعات ، و ذهب إلى الثاني أحمد بن إدريس القرافي و الغزالي ، و ذكر هذا الخلاف السيوطي في "تنوير الحلك" و قال بعده ما نصه :" و فصل القاضي أبو بكر بن العربي فقال : "رؤيته صلى الله عليه و سلم بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة ، و رؤيته على غير صفته المعلومة إدراك للمثال، و هذا الذي قاله في غاية الحسن ." ."
قال السيوطي رحمه الله : "و لا يمتنع رؤية ذاته الشريفة بجسده و روحه ، وذلك لأنه صلى الله عليه و سلم و سائر الأنبياء أحياء ردت إليهم أرواحهم بعدما قبضوا ، و أذن لهم في الخروج من قبورهم و التصرف في الملكوت العلوي و السفلي.
و قد ألف البيهقي جزءا في حياة الأنبياء ، و قد ألفنا فيها جزءا لطيفا .. ثم قال :" فحصل من مجموع هذه النقول و الأحاديث أن النبي صلى الله عليه و سلم حي بجسده و روحه ، و أنه يتصرف و يسير حيث شاء في أقطار الأرض و في الملكوت ، وهو بهيئته التي كان عليها قبل و فاته لم يتبدل منه شيء، و أنه مغيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم ، فإذا أراد الله رفع الحجاب عمن أراد كرامته رآه على هيئته التي هو عليها لا مانع من ذلك و لا داعي إلى التخصيص برؤية المثال."
و هذا التحصيل صريح على أن الذي اعتمده السيوطي رحمه الله تعالى من الخلاف ، إمكان رؤيته صلى الله عليه و سلم يقظة و مشافهة بذاته الشريفة الحقيقية ، وهو أيضا كاف في رد جميع ما يخدش في وجه صحته كما ترى . و ذكر في "الجيش الكبير" أن شيخ مشائخ المالكية سيدي عليا نور الدين الأجهوري رحمه الله تعالى نقل هذا التحصيل بلفظه في نوازله فهو قائل به.
و قال الإمام الساحلي في "بغية السالك" بعدما ذكر طبقات الناس في انطباع صورته الشريفة صلى الله عليه و سلم في نفوسهم : " ووراء هذا ما هو أعلى درجة منه ، وهو أن يراه بعين رأسه عيانا في عالم الحس و لا تنكر هذا، فقد يكرم الله من يشاء من عباده بإقامة صورته الكريمة له حتى يشاهدها ، و هذا من جائز الكرامات التي يتحف الله بها أولياءه . " نقله في "الجيش"...
فتحصل من هذا الذي ذكرناه من هؤلاء الأئمة رضي الله عنهم أن رؤيته بعين الرأس في عالم الحس و ما يتبعها من الأخذ عنه و سؤاله عما يعرض و مشاورته في الأمور و نحو ذلك كل ذلك ممكن عقلا، ثابت نقلا لا مانع منه لمن أكرمه الله تعالى به من الأولياء وهو من جملة كراماتهم المتفق على جواز وقوعها عند أهل السنة رضوان الله عليهم لثبوت حياته صلى الله عليه و سلم كغيره من الأنبياء عليهم الصلاة و السلام.
قال جلال الدين السيوطي في أول كتابه " انباء الأذكياء بحياة الأنبياء": "حياة النبي صلى الله عليه و سلم في قبره هو و سائر الأنبياء عليهم الصلاة و السلام و الصلاة معلومة عندنا علما قطعيا ، لما قام عندنا من الأدلة على ذلك و تواترت به الأخبار.
و ذكر من الأخبار الدالة على ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه: " أن النبي صلى الله عليه و سلم مر بقبر موسى عليه السلام فإذا هو حي في قبره يصلي قائما" ، و من ذلك حديث:" الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون". ".
[...] وذكر في الأنباء أيضا عن دلائل النبوة أن سعيد ابن المسيب قال :" لقد رأيتني ليلة الحرة و ما في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم غيري ، و ما يأتي وقت صلاة إلا سمعت الأذان من القبر الشريف ، و في رواية لم أزل أسمع الآذان و الإقامة في قبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أيام الحرة ، و في رواية : فكنت إذا حانت الصلاة اسمع آذانا يخرج من قبل القبر الشريف ، و في رواية الدارمي : و لم يبرح سعيد ابن المسيب المسجد و كان لا يعرف وقت الصلاة إلا بهمهمة يسمعها من قبره صلى الله عليه و سلم.
ونقل عن القرطبي رحمه الله تعالى أن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن يغيبوا عنا بحيث لا ندركهم و إن كانوا موجودين أحياء لا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه الله تعالى بكرامته من أوليائه .
و ذكر هنا كلام الشيخ عفيف الدين اليافعي و نصه على ما نقله : "الأولياء ترد عليهم أحوال يشاهدون فيها ملكوت السماوات و الأرض و ينظرون الأنبياء أحياء غير أموات ، كما نظر النبي صلى الله عليه و سلم إلى موسى عليه الصلاة و السلام في قبره ، و قد تقرر أن ما جاز للأنبياء معجزة جاز للأولياء كرامة بشرط عدم التحدي ، و لا ينكر ذلك إلا جاهل."
وفي هذا الذي ذكرناه كفاية و الله ولي التوفيق ، و ما تعسف به بعضٌ هنا من استحالة رؤيته صلى الله عليه و سلم يقظة لما يلزم على ذلك من خروجه من قبره و مشيه في الأسواق و خلو قبره من جسده المقدس رده العلامة ابن حجر المكي بقوله : " و هذه الإلزامات كلها ليس شيء منها بلازم ، و دعوى استلزامه لذلك عين الجهل و العناد ..."
و ما ألزمه الحافظ العسقلاني أيضا على القول بإمكان رؤية ذاته الشريفة في عالم الحس من أن الرائي يكون صحابيا رده العلامة الهيتمي أيضا ، و السيوطي في "تنوير الحلك" بأن شرط الصحبة أن يراه وهو في عالم الملك ، و هذه رؤية ، بينما هو في عالم الملكوت ، و هذه الرؤية لا تفيد صحبة .
قال السيوطي : "و يؤيد ذلك أن الأحاديث وردت بأن جميع أمته عرضوا عليه فرآهم و رأوه و لم يفدهم ذلك صحبة ، لأن الرؤِية في عالم الملكوت. " انتهى
وعالم الملك هو عالم الحس و الشهادة ...
و عالم الملكوت هو عالم اللطافة و الغيب ، و من شأنه خرق العوائد ، و حقيقة خرق العادة الخروج عن محيطات ما هو معلوم و معتاد من الحدود و الرسوم و التعريفات و سائر الظوابط المنحصرة في عالم الحس. و معلوم أن هذه الرؤية لمن أكرمه الله بها من باب خرق العادة ، و لذلك دخلت في حيز باب الكرامة .
[...] و هذه مزية عظيمة لهؤلاء الكمل على من عداهم ، إلا أنهم لا يرتقون بها إلى درجة الصحابة رضي الله عنهم ، فهي مثل المزية الحاصلة للذين يروُون الأحاديث المتصلة برسول الله صلى الله عليه و سلم في كل عصر ، فإنهم يحشرون مع الرسل عليهم الصلاة و السلام لأنهم ورثة الأنبياء في التبليغ ، و الفقيه إذا لم يكن له نصيب في رواية الحديث فليس له هذه المزية . انظر "الفتوحات" للسيوطي فقد بسط الكلام في هذه المسألة رحمه الله.
مقتطفات من " بغية المستفيد" لسيدي العربي بن السائح العمري