من كلام سيدنا رضي الله عنه :"
وقع الإجماع على أن الحكم المقرر بالنبوة لا يتأتى رفعه و تبديله إلا لنبوة ، وأما الولاية لا طريق لها إلى هذا الباب لأن الله تعالى و إن كان يلقي العلوم للأولياء كما يلقيها للأنبياء فإنه لا يتأتى و لا يتصور أن يحل لهم عقود النبوة ، و من هذا الباب تفطن الشيخ عبد القادر رضي الله عنه لقول اللعين :" أنا ربك أحللت لك المحرمات." فقال له :" اخسأ يا لعين!" ، فسقط ممسوخا و صارت السحابة ظلاما ، فقال الشيطان :" يا عبد القادر نجوت مني بعلمك بحكم ربك و فقهك ، و لقد أضللت بمثل هذه الواقعة سبعين رجلا من أهل الطريق ."، قيل للشيخ :"بم عرفت أنه شيطان ؟" قال:" بقوله لي:" أحللت لك المحرمات " لأن المحرمات التي حرمت في شريعته صلى الله عليه و سلم لا يمكن رفعها إلا بنبوة ، و النبوة قد ارتفعت و ختم عليها."
إذا فمن حلل شيء لنفسه أو لغيره مما حرمته الشريعة ممن ينتسب على الطريق فلا يلتفت إليه فإنه مخدوع و تائه في أودية الضلال
و بعبارة أخرى ، قال رضي الله عنه :" اعلم أن الرسل كلهم عبروا عن الله بعبارات حقية لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها ، فمن ادعى إباحة الخروج عنها أو اعتقد أن ذلك يباح له عند الله تعالى فقد كفر ، شاهد ذلك قوله في سورة الأنعام :{ أولائك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} "
و قد يرد علينا بحث وهو إذا قلنا أن الخضر ولي وليس بنبي ، فكيف يسوغ له قتل الغلام و قد اجتمعت جميع الشرائع على تحريم قتل الصبيان لأنه من الفساد في الأرض ولو فعلوا ما يوجب القتل لأنه لا يباح قتل الشخص إلا إذا بلغ التكليف ؟
وفي هذا سئل سيدنا رضي الله عنه عن سيدنا الخضر عليه السلام هل هو نبي أم لا ؟ و هل يجوز في نفس الأمر زيادة غير النبي على النبي في العلم ؟ ،وإشكال قتله الغلام .
فأجاب رضي الله عنه بما نصه :
اعلم أن الخضر عليه السلام ولي فقط و ليس بنبي عند الجمهور ، و الخلاف في نبوته هو عند أهل الظاهر لا عندنا حيث هو مقطوع به من الأولياء لا من النبيين ، و إن كان غير الجمهور يقول بنبوته ، ... و دليل عدم نبوته قول سيدنا موسى عليه الصلاة و السلام له في خرق السفينة :{ قد جئت شيئا إمرا } و في قتل الغلام :{ قد جئت شيئا نكرا} ، إذ لو كان نبيا ما جهله موسى عليه الصلاة السلام لأنه تام العلم. فكيف يجهل قدر نبي حاضر معه يظنه ليس نبيا ؟ هذا يستحيل على الأنبياء لوجوب الإيمان به لو كان نبيا ، فلو علم موسى أنه نبي ما تجرأ عليه بقوله:" لقد جئت شيئا إمرا..."، "و شيئا نكرا..." ، لأنه يعلم أن هذا مستحيل على النبوة لا يتأتى و لا يتصور منها لثبوت العصمة ، فهذا أكبر دليل أنه ليس بنبي.
أما السؤال الثاني هل يتأتى زيادة غير الأنبياء على الأنبياء في العلم أم لا ؟
فالجواب :
والله أعلم أن زيادة غير الأنبياء على الأنبياء جائز في نفس الأمر لا إحالة فيه و لا يزري ذلك بمرتبة النبي لأن هناك فرقا في العلم بالله و صفاته و أسمائه و تجلياته و ما تشتمل عليه من المنح و المواهب و الفيوض .
فلا مطمع لغير النبي أن يزيد على النبي في هذا الميدان لأن النبوة أكثر علما و أوسع دائرة و أعظم إدراكا ، و لو كان غير النبي يلحق به أو يزيد عليه في هذا الميدان لساواه في الفضل أو كان أفضل منه ، أما في ما دون ذلك من العلم بمراتب الكون ، وما يقع فيه جملة و تفصيلا و تقلبات أطواره ، وانكشاف ما سيقع فيه مستقبلا قبل وقته وهو كشف الغيوب الكونية ، فإن غير النبي قد يزيد على النبي كما هي قضية الخضر بعينها ... فلا حجر على الله في ملكه و لا في حكمه يهب ما يشاء لمن يشاء كيف يشاء و له الاختيار التام و المشيئة النافذة لا تأخذه القيود و لا الضوابط و لا يحيط بعلمه محيط.
ويبقى إشكال حول تجرؤه على قتل الغلام برغم تحريم جميع الشرائع لذلك ، لأن الله سبحانه و تعالى لم يبحه للخضر نبوة لأنه ليس بنبي كما قررنا ، و الحكم المقرر في الشرائع لا ينحل إلا بنبوة ، والولاية ليس لها هذا ، فمن الاستحالة رفع الحكم المقرر في الشرائع و النبوة في رتبة الولاية بدون نبوة.
فلزم حينئذ أنه تلقى ذلك الحكم من نبي لم يعلمه موسى عليه الصلاة و السلام ، نبيا آخر غائبا عنه وهو في زمانه ، فهذا لا يستحيل فلا محيط بعلم الله تعالى." انتهى
فإذا قلنا أن شرائع الرسل كلها متفقة على تحريم قتل الصبيان فكيف يسوغ لهذا النبي أن يبيح ما اتفقت عليه الشرائع ؟
فالجواب عن هذا أن الله سبحانه و تعالى يحرم و يحلل بالنبوة ما يشاء سواء كان الحكم دائما مستطردا أو خاصا في قضية معينة أو في وقت معين ، كما وقع معه صلى الله عليه وسلم حيث قال في قتاله بمكة :" إنما أحلت لي ساعة من النهار ثم رجعت حراما. " فإن هذا حكم من الله خاص بوقت معين و لا يستطرد ، وكذا في قضية سيدنا موسى عليه السلام مع السامري و كان في شرعه :"من كفر بالله جهارا وجب قتله" ، فلما أراد قتل السامري نهاه الله سبحانه و تعالى عن قتله و أمره بتركه لكثرة سخائه و إحسانه إلى الخلق فذلك الأمر خاص بوقت معين في شخص معين.
فنفهم أنه إذا ورد رفع الحكم من الله على نبي من النبيين فإنه يسلم له و لا يعترض عليه في شيء لكمال علمه و علو مرتبته ، لأن العلم بالأحكام الشرعية التكليفية خاص بالنبوة و وصف منطبع فيها ، وليس في قوة الصديقية أن تدرك العلم بالأحكام الشرعية التكليفية بدون تلقي من الغير.
من كتاب الجامع لسيدي محمد بن المشري رضي الله عنه